في لحظة صدق وتأمل، طرح على أحد أصدقائي وهو أستاذ جامعي مرموق فكرة تستحق أن تكتب بحروف
من وعي ومسؤولية، حين قال لي: يا حبيبي، تواصلت مع بعض أمناء لجان ترقيات الأساتذة وقلت لهم لابد
أن تتغير قواعد الترقيات في ضوء دور الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأبحاث العلمية خلال لحظات، وفي ظل وجود
شركات متخصصة تنجز أي بحث وتنشره في أرفع المجلات العالمية مقابل آلاف الدولارات.
لكن الرد كان صادمًا: صعب تغيير القواعد المعمول بها.
هنا تبدأ القضية الحقيقية..
نحن أمام واقع جديد يعيد تشكيل مفهوم العلم ذاته، ويطرح تساؤلات عميقة حول جوهر الرسالة الجامعية..فإذا
كان البحث العلمي ينجز اليوم بضغطة زر، فمن أين يأتي الإبداع؟ وإذا كانت الشركات قادرة على إنتاج “بحث
مثالي” بمعايير النشر الدولي، فأين موقع الأستاذ الجامعي المجتهد الذي أفنى عمره بين المراجع والمختبرات؟
تآكل القيمة الحقيقية للبحث العلمي
ما نشهده اليوم ليس مجرد تطور تقني، بل تحول ثقافي ومعرفي خطير..فحين يصبح البحث سلعة تشترى
وتباع، وحين تقاس كفاءة الأستاذ بعدد الأبحاث المنشورة دون النظر إلى جوهرها ومصدرها، فإننا أمام أزمة
ضمير علمي وأخلاقي تهدد أساسات التعليم العالي.
رسالة التعليم العالي في مأزق
إن رسالة الجامعة لم تكن يومًا مجرد منح شهادات أو ترقيات أكاديمية، بل هي بناء العقل المفكر الحر
الذي يسهم في تنمية وطنه.. ولكن كيف نحقق ذلك إذا كانت أدوات التقييم لا تواكب عصر الذكاء الاصطناعي؟
كيف نحافظ على روح الاجتهاد إذا كان الطريق الأسهل متاحًا عبر برامج قادرة على توليد الأفكار والبحوث
دون جهد أو بحث حقيقي؟
الخوف على الطلبة المجتهدين
قال لي صديقي الأستاذ الجامعي المرموق محذراً بمرارة: سنرى في المستقبل أساتذة لا يليق أن يقوموا بالتدريس
خوفًا على الطلبة المجتهدين الباحثين عن العلم والمعرفة.
وهي عبارة تختصر جوهر المأساة، لأن الخطر لا يهدد فقط مصداقية البحث العلمي، بل يمتد ليصيب العملية
التعليمية ذاتها في مقتل.
دعوة لإعادة النظر
لم يعد مقبولًا أن تبقى قواعد الترقيات الأكاديمية حبيسة لوائح وقرارات وضعت في زمن لم يكن فيه الذكاء
الاصطناعي سوى خيال علمي.
اليوم، نحن بحاجة إلى منظومة تقييم جديدة تضع الإبداع والمصداقية في المقدمة، وتمنح الأولوية للتأثير
العلمي والمجتمعي لا لمجرد الكمّ الورقي المنشور.
بكل تأكيد التعليم العالي ليس مجرد مؤسسة لإنتاج الشهادات، بل هو ضمير الأمة وعقلها المفكر..وإن لم
نتحرك بوعي وشجاعة لإصلاح مساره في زمن الذكاء الاصطناعي، فسنجد أنفسنا أمام أجيال من حملة
الألقاب بلا علم، وأساتذة بلا رسالة، وجامعات بلا روح.