لم تفلح مكائد محترفي «السبوبة» في التغلُّب على مهارة أرباب المهنة وخبراء الفن والسينما على وجه الخصوص؛.
فمن الوهلة الأولى التي تتجول فيها عيون ووجدان روَّاد «مهرجان الاسماعلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة».
في دورته الخامسة والعشرين، لا يمكن أبدًا تجاهل ثلاثية «الروح الطيبة، والجهد الصامت، وحب السينما».
في كل الزوايا، ولا يمكنه أيضًا إنكار دأب الضمير المهني لإخراج المهرجان في أبهى صوره، بعيدًا عن أدوات زائفة، .
أثبتت فشلًا ذريعًا في مهرجانات الماضي غير البعيد.
ربما كان رئيس المهرجان، الناقد الفني عصام زكريا، موفقًا ومساعديه إلى حد كبير في النجاح الباهر الذي أحرزه المهرجان، لاسيما أن التفاني في العمل، وإنكار الذات، والعزوف عن المصالح الشخصية الضيقة، لقن القائمين على مهرجانات أخرى سابقة دروسًا في نزاهة القصد، وبراءة المسعى، وبعدًا عن موائد اللئام، واقتصار النشاط على إدارة أكثر من ندوة، وتفادي المنغصات والمشاكل التي لا تسلم منها أغلب المهرجانات الفنية.
ورغم كثير العقبات والعراقيل التي واجهها القائمون على المهرجان في دورته الحالية، إلا أن حُسن تصرف القائمين عليه، وحصافة التعامل مع كل تفصيلة، أفضى إلى ذوبان المشاكل في كؤوس المتربصين وأعداء النجاح.
ولا يمكنني هنا سوى إضفاء مسحة من الشكر للجنود المجهولة في المهرجان، الذين اختارهم «مايسترو» الحدث عصام زكريا بعقلية «الجواهرجي» الماهر، وأخص بالذكر «دينامو» المهرجان، مدير العروض، محمد مصطفى، وكذلك مدير المركز الصحفي مي محمد، التي أدت عملها على أكمل وجه، وتغلبت على شتى العقبات في صمت وهدوء تام.
إذا كان الأصل في الأداءات هو تقديم الحدث في أبهى صوره، فالوقائع السابقة التي وضعنا فيها «أدعياء» المهنة، جعلتنا نتصور حاليًا أن إعداد «مهرجان الاسماعلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة» في دورته الخامسة والعشرين بهذا المستوى المشرِّف عملة نادرة، تغاير ما اعتدنا عليه في مهرجانات سابقة.
وإلى جانب التنظيم والإعداد الجيد، لايمكن تجاهل نجاح المهرجان في إبراز مدى أهمية وقوة تأثير السينما في الشعوب،
وعلى حد خاص السينما الوثائقية والقصيرة؛ فالسردية الكامنة في صناعة الأفلام الوثائقية والقصيرة هي الأخطر والأكثر
فاعلية في التأثير على المُتلقّي العربي؛ وربما تبدو هذه الخطورة في تعمُّق السينما الوثائقية والقصيرة داخل معترك
الأحداث الشائكة شديدة المحلية، والتي تحمل أيضاً طابعًا دوليًا من حيث نوع القضية، وآليات طرحها.
على سبيل المثال فيلم «احكي يا عصفور»، الذي تدور أحداثه حول أربع مناضلات فلسطينيات مررن بتجربة السجن داخل السجون الإسرائيلية، وكل منهن تروي تجربتها داخل سجون الإحتلال الصهيوني، ومعاناة كل واحدة منهن إزاء آثار تعذيب الجسدي والنفسي. لكن المهم في القضية هو القوة التي رأينا بها المناضلات، فكلما زاد القهر والعنف والتعذيب كلما أصبحن أقوى وأفسدن على العدو لحظات انتصاره الزائف. لقد أدركنا مدى قوة وبأس المناضلات الفلسطينيات الأربعة وغيرهن قياسًا بقوة أسلحة العدو الصهيوني. وقالت مخرجة فيلم احكي يا عصفور عرب لطفى، أن السبب وراء تقديمها المناضلات
الفلسطينيات هو حرصها على إلقاء الضوء على دور النساء فى النضال المسلح، والعمل استغرق عدة سنوات حتى خرج إلى النور بسبب عدم توفير التمويل المناسب، حيث لجأت إلى بعض الجهود الذاتية واستعانت بمساعدة بعض الأصدقاء المقربين”.
وقالت إن سبب اختيارها للعمليات النضالية كان عن قصد لأنها كانت عمليات مسلحة جدلية، حيث كان هناك كثير من الأقاويل حول هذه العمليات، وبها بعض المعلومات غير الدقيقة، ولذلك قررت تقديم هذه العمليات المسلحة في عمل يكشف الحقيقية، ويلقى الضوء على دور النساء في النضال الفلسطيني المسلح”.
وأضافت ال “4 نساء اللاتى ظهرن في الفيلم لم يكن هناك شخصية فيهن أقرب بالنسبة لى، كما أن كل منهن يروين تجربتهن الذاتية الصعبة، ودورهن في النضال الفلسطيني المسلح، ولذلك لا يمكن أن أميز أو أميل لشخصية عن أخرى، خاصة أن كل منهن لهن شخصية ساحرة ومررن بتجربة مرعبة فى النضال الفلسطيني”.
رأينا أيضاً في بعض الأفلام الأخرى صورة مكثفة ودسمة تناولت قضية ومعاناة الشعب الفلسطيني، بآليات أكثر عمقاً وبساطة
في ذات الوقت. فيلم “المفتاح” الذي يلمس قلب وعقل وإحساس المشاهد، والذي يحكي في صورة فلسفية مختلفة عن
حق عودة الشعب الفلسطيني، لكن السردية تخرج من رحم المنظور الإسرائيلي، فالأبطال أسرة إسرائيلية يراودها
«كابوس» عودة الفلسطينيين إنطلاقًا من حق العودة إلى الأرض.
وكشف مخرج فيلم المفتاح ركان مياسي، في ندوة عقب عرض الفيلم عن تفاصيل تقديمه للفيلم قائلا: إن فيلم المفتاح
مأخوذ من إحدى قصص كتاب “100 عام ما بعد النكبة”، والذي يضم 12 قصة قصيرة، موضحا أن أكثر قصة جذبته هي قصة المفتاح، فبالرغم من أن الفيلم يعبر عن القلق الذي يعيشه الإسرائيليين لكن طغت عليه بروح الفلسطينين من خلال صوت المفتاح.
وأضاف ركان، أن الفيلم إنتاج عربي مشترك، وتم تصويره في الأردن وأبطاله فنانين فلسطنيين، وجاء اختيار اسم
“المفتاح” لأنه يعبر عن رسالة الفيلم، وهو حق الفلسطينين في العودة لأراضيهم.
لقد عملت تلك الأفلام على فترات زمنية مختلفة بلمسة خفيفة لتوجيه الوعي نحو القضية المطروحة، وتنقية سرديتها
من آفات الأعمال الوثائقية الإسرائيلية، التي تغرسها تل أبيب في أدمغة المتلقي لدى مختلف مهرجانات العالم، وتزيِّف
بها وعي الرأي العام إزاء القضايا الفلسطينية ذاتها.
في النهاية أود توجيه رسالة للناقد الفني ورئيس مهرجان الإسماعيلية الدولي للفيلم الوثائقي والقصير:
«لا يصح إلا الصحيح، والخفافيش لا تنشط إلا في عتمة الليل، لكنها تنقشع فور بزوغ النور».