ستظل التكنولوجيا هى الأداة الأهم في مجال قياس تطور وتقدم الدول، كما أنها رسخت لمبدأ اللامحدودية
للعلم ، على نحو يولد اليقين لدى الكافة بأن ما توصل إليه الإنسان رغم عظمته إلا أنه يمثل جزء يسير
مما يمكنه أن يصل إليه من قدرات في عالم النفوذ والسيطرة المتسم بصراع أبدي، ومما لا شك فيه
أن هذا الصراع يرافقه صراع أخر بين الإنسان والآلة التي جاءت من صنعه، والصراع الأخير هو صراع وجودي
بلا ريب ، لأن الإنسان رغم أنه هو صانع الآلة والمطور لقدراتها على نحو يعظم من قدراتها وإمكانياتها
بحيث تزوده بقدرات هائلة تجعله يتفوق على غيره ممن لا يملكون هذه الآلة، إلا أن التهديد الحقيقي
يتمثل في أن تحل الآلة محل الإنسان أو تخرج عن سيطرته ومن ثم يتحول إلا المقاد وليس القائد،
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية التي تهدد أركان المجتمع الإنساني بأكمله ، مشكلة ذوبان الإنسان
في الآلة بحيث يتحول الكون إلى عالم اصطناعي غير إنساني.
وحينما نتطرق لهذه المشكلة من خلال استقصاء واقعنا المعاصر نجد أن محاكاة الآلة للإنسان
صارت واقعا ملموسا في حياتنا، حتى صار العقل الاصطناعي أداة أساسية يعتمد عليها الإنسان
في العديد من أنشطته الحياتية، لذا فإن السلوك التكنولوجي للإنسان يعد ثقافة هامة لابد من نشرها
في جميع ربوع المعمورة ، وما يؤكد أهمية نشر تلك الثقافة على نحو عالمي ما قام به الأمريكي “جون ماكرثي”
في عام 1956 من تنظيم مؤتمر دولي للذكاء الاصطناعي، حيث توالت الحوارات العالمية بشأن هذا الأمر
على نحو كان الهدف منه دائما هو وضع ضوابط دولية للذكاء الاصطناعي تخلق توازنا حقيقيا
بين الاعتماد عليه كأداة تخدم البشرية من خلال الاتاحة والتمكين من خلال تطوير قدرات الآلة عقليا،
وبين الوقاية من مخاطره والحد من أضراره ومنع إستخدامه على نحو يخدم قوى الشر في العالم أو ما يطلق
عليه “الصندوق الأسود للذكاء الاصطناعي”.
ومما لا شك فيه أن تطور الذكاء الاصطناعي مر بعدة مراحل حيث بدأ بمرحلة الذكاء التفاعلي الذي
يجعل الآلة قادرة على التفوق على الانسان فيما يقوم به من أفعال بإختيار رد الفعل المناسب ، بحيث
يكون الحاسوب قادرا على هزيمة بطل العالم في الشطرنج وهذا ما حدث بالفعل في ثمانينيات القرن
الماضي حيث هزم كوسباروف بطل العالم في الشطرنج على يد الحاسوب، ولا يقف الأمر عند هذا الحد
بل ظهر الذكاء الاصطناعي المحدود من خلال الآلات الذكية القادرة على القيام بالمهم الذكية
وهو ما يعرف بالروبوت الذكي القادر على القيام بالعديد من المهام بدقة تتفوق على دقة الإنسان سواء
السيارات الذكية أو في المجال الطبي أو الحسابي أو الخدمي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل
صار الشعور والتفاعل العاطفي محل اهتمام كبير لدى مبرمجي ومطوري الذكاء الاصطناعي
حتى وصل الأمر إلى أن يكون الروبوت قادرا على التفاعل العاطفي لدى الإنسان بحيث يتفاعل إيجابيا
مع مشاعر الإنسان ويكون مصاحبا له على نحو يعينه على مواجهة مصاعب الحياة ، وهل توقف
الأمر عند هذا الحد ؟
الحقيقة لا وستظل الإجابة على هذا السؤال بكلمة “لا”، فقد صار التوصل إلى ما يسمى
بالذكاء الاصطناعي الذاتي الذي يعتمد على الوعي بالذات هدفا أساسيا لرواد هذا المجال بحيث تكون
الآلة لديها الشعور الذاتي ومن ثم القدرة الذاتية على الإحساس وترجمة الأحاسيس والمشاعر والعواطف
إلى سلوك مطابق للسلوك الإنساني كمشاعر الحب والكره والغيرة والحقد والأنانية والطمع والإيثار، وهنا يدق
ناقوس الخطر بعنف ، لأن الذكاء الاصطناعي قد يتحول يوما ما إلى مارد يصعب التحكم فيه، وبالتالي
قد يفترس إنسانية الإنسان يوما ما ويهدد وجوده بالكلية .
وهنا يجب التأكيد على أن الموقف من الذكاء الاصطناعي داخل الدول ولدى الحكومات والمجتمعات
الداخلية يختلف تماما عن الموقف بين الدول وفي المجتمع الدولي، فإن كانت الدول تحرص على وضع القواعد
والضوابط الكفيلة بالحد من مخاطر الذكاء الاصطناعي ومنع الأضرار التي تنجم عنه سواء بالخطأ
أو العمد بغرض حماية مقدراتها الوطنية وشعوبها، فإن المجتمع الدولي نظرته وسلوكه مختلف
تماما حيث تغلب عليه المصلحة الذاتية والرغبة في السيطرة والنفوذ، ولا أدل على ذلك
من امتناع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا عن التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر الدولي
المنعقد بباريس في مارس الماضي، حيث حضر المؤتمر خمس وستين دولة تقريبا بغرض وضع الضوابط
الحاكمة للذكاء الاصطناعي على المستوي الدولي، وقد بررت الدولتان عدم توقيعهما على البيان بأن وضع
ضوابط للذكاء الاصطناعي من شأنها أن تخنق الابتكار والإبداع كما أنها تضر بالتنمية الاقتصادية
للدولة وتتعارض مع اعتبارات الأمن القومي للدول .
ونستنتج من ذلك أن الذكاء الاصطناعي صار واقعا تنافسيا دوليا محتدم لا مجال أبدا للتهاون معه
على نحو يفرض ضرورات ثلاث ، الضرورة الأولى : التعليم المتخصص والوعي العام ، والضرورة
الثانية : التعاون الاستراتيجي الملزم القائم على الشفافية والتمكين المؤسسي اقتصاديا وتشريعيا
وقضائيا وأمنيا ، والضرورة الثالثة : امتلاك القدرة التنافسية الفاعلة والمؤثرة في هذا المجال .