ندرس التجارب لنتعلم فالعبرة ليس لمن سبق ولكن لمن صدق، فرغم الزخم والتاريخ القبلي لدول الخليج الذي يمتد إلى نوح عليه السلام إلا أن تلك الدول هي حديثة العهد بالاقتصاد المعاصر( لم يظهر تواجد انتاجي في الثورات الصناعية الثلاث الاولى بل كانوا مستهلكين) يميزها أنها لم تستغرق كثيرا في عصور الإهتداء للطريق، ولكن ما إن وضعت قدمها على بداية الطريق حتى أعلنت عن نفسها . الإمارات العربية المتحدة تجني الأن ثمار خمسون عاما من التخطيط والطموح وحب الوطن وإنكار الذات. قطر عرفت طريقها المختصر السياسة الدولية والرياضة واقتصاد مباشر مع ايران وتركيا ومجلس التعاون وعقود غاز مع الصين واوروبا وننتظر منها المزيد الصالح. السعودية جاءت ثالث ، وإن كنت متأخر خير من ان لا تأتي أبدا، وكأنها بدأت أولا فتجد أوبك و اوبك + وسياسة دولية حتى التوسط بين روسيا واوكرانيا واستثمار في جميع انحاء العالم من خلال صندوق سيادي وتطرق كافة ابواب الاستثمار أنه وحش الهلال الخصيب بلا منازع ولكن ماذا فعلت تلك المملكة حتى تكون لها تلك السطوة ؟ سنتناول اليوم التجربة السعودية باختصار شديد لعل هناك من يستفيد .
ادركت الإدارة السعودية أن ما يقف أمام ازدهارها الاقتصادي أمرين لا ثالث لهما ، أولهما : سيطرة الفكر المضاربي على المستثمرين في السوق السعودي ، وثانيهما: الطمع سواء المشروع أو غير المشروع فيما حباها الله من نعم. وفي سبيل القضاء على هذين الامرين يجب ان يكون هناك فيما يعرف ( بالأمل) والامل هنا اقتصادي ووظيفي وحياتي وسياسي أيضا. وتلك الاخيرة قد بدأوا بها فتولى القيادة شاب مدجج بالطموح والأمل والعلم ، ونجح في تخطي أولى عقباته السياسية الداخلية و الخارجية وكان عليه ان ينتهي سريعا من هذا الهجوم (والذي يتضح الان من هذا التألق السعودي لما كان هذا الهجوم الداخلي والخارجي عليه) ، ثم الإنطلاق للأمل الاقتصادي والوظيفي ومن وراءه جميع فئات الشعب بإرادة مخلصة لن تجد عائق أو فساد فالجميع مشغول بالبناء على كافة الاصعدة. ويأتي الأمل الاقتصادي من خلال القضاء أولا على الفكر المضاربي إذ دائما ما تعاني اقتصاديات ممالك الخليج بالفائض ويبدو ان العبارات غير متناسقة معاناة مع الفائض ؟! نعم كانت كذلك بالفعل ففي السعودية على سبيل المثال والتي كان يسيطر على مستثمريها الوطنيين الفكر المضاربي كان يتم المضاربة على اسعار الأسهم بشكل يفوق حد التصور، فلك ان تتصور أن السوق المالية السعودية صعدت حوالي ستة أضعاف قيمتها في الفترة ما بين عام 2002 حتى عام 2006 حتى قامت هيئة السوق المالية السعودية بشن حرب ضروس ضد المضاربين وكانت آلياتها في هذا تشريعية من الدرجة الأولى تغيير شامل في قانون سوق المال السعودي ومحكمة جنائية سعودية للسوق المالية وتأُثر لم يتجاوز سنوات اليد الواحدة والأن تسمع عن سوق قوى يحسب له ألف حساب ، جاذب للاستثمار الاجنبي والمحلي على حد سواء.
كما تشهد المضاربات ميدانا أخر في المجال العقاري الذي تستحوذ فيها على مليارات الريالات والتي تسبب تضخم في اسعار الاراضي ومن ثم تضخم تكاليف شراء المساكن والمنتجات العقارية على حد سواء وكل ذلك بهدف المكسب السريع والقياسي. وامام كل ذلك ، لم تصمت المملكة بل جعلت هذا الأمر شاغلها الأول فتشرع وتقيم وتتخذ من الاجراءات التي تساعد على قتل الفكر المضاربي فقد نشرت وزارة العدل السعودية بيانات متعلقة بالمؤشرات العقارية خلال عام 2022 توضح انحسار المعاملات المضاربية على العقارات في العام نفسه . وتضع خطط استثمارية متاحة للقطاع الخاص للمشاركة فيها ، وزيادة ضخ الاموال في الاستثمار الجرئ كما يعرفونه. كل ذلك أتي من مشاركة المملكة للقطاع الخاص الوطني المخلص فالعبرة ليست بالمشاركة الجوفاء والجميع يخون بعضه البعض فإذا وجد قطاع خاص وطني فلا تخشى على الوطن من شئ . كل ما سبق متوجا بمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة من إنشاء مدينة نيوم بمشاركة القطاع الخاص المحلي والعالمي ايضا .
أما فيما يتعلق بالطمع في نعم الله على المملكة فقد واجهت المملكة أمرين أولهما هو الطمع غير المشروع والمتمثل في استنفاذ المملكة تارة بالحرب والإرهاب وتارة بالسطوة والبلطجة الدولية سياسيا وعسكريا كما حدث في عهد الرئيس ترامب. ففي تلك المرة أظهرت المملكة تحالفات عسكرية مختلفة فمالت ناحية الشرق الروسي والصيني بجانب الاوربي الامريكي وعززت من مواقف اوبك بلس واصبحت وسيطا دوليا يستمع له . واما فيما يتعلق بالطمع المشروع وهو تمويل المملكة للدول التي تعاني اقتصاديا ادركت المملكة أنه لا مناص من تفعيل دورها المالي على الساحة الدولية واستغلال اموالها باشكال متعددة فعلي سبيل المثال زيادة الاستثمار في الصندوق السيادي وفتح اسواق جديدة أو زيادة الاستثمار في اسواق متعثرة سابقة (وهما عصفورين بحجر واحد فلن يجد المتبلطج أموالاّ لأخذها ولن تهدر المملكة أموالها عبثا دون استفادة على كافة الاصعدة) وعلى صعيد اخر تم اختيار المملكة كمكتب اقليمي لصندوق النقد الدولي، ومن ثم اختيار صندوق النقد للمدير التنفيذي للملكة العربية السعودية لدى الصندوق رئيسا للجنة اختيار اعضاء التدقيق المخصصة وعضوا للجنة التقييم التابعتين للمجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي
كل ذلك كان يجب أن يتوج بتصريحات تعلن أن المملكة ستصبح لاعباّ ممولاّ لامجرد خزانة أموال يتم تفريغها كلما ملئت. إذ قال ممثلوها يجب أن نرى الدول تقيم إصلاحات حتى نقيم ونعطي أمولا للتنمية ، مغلفة بشروط سياسية بالطبع، تلك العبارات التي صدرت من وزير المالية السعودي لم تأتي في بداية التجربة وإنما، عندما نضجت وقويت و وضع أساس لذلك فعندما قالوا استمع الآخرون لها. واتوقع أن الأيام القادمة ستشهد أمرين أولهما تألق اقتصادي واستثماري، وثانيهما محاولات على عدة أصعدة سياسة أو عسكرية لمحاولة وقف نمو الصقر السعودي عن التحليق عاليا.